كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ بِمَا يُسَرُّ مِنْ الْقَوْلِ وَمَا يُجْهَرُ بِهِ وَعَالِمٌ بِأَعْمَالِهِ؛ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ حَبْلِ الْوَرِيدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعَبْدِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ حَبْلَ الْوَرِيدِ قَرِيبٌ إلَى الْقَلْبِ لَيْسَ قَرِيبًا إلَى قَوْلِهِ الظَّاهِرِ وَهُوَ يَعْلَمُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْبَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمَ؛ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ثُمَّ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فَأَثْبَتَ الْعِلْمَ؛ وَأَثْبَتَ الْقُرْبَ وَجَعَلَهُمَا شَيْئَيْنِ فَلَا يَجْعَلُ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرُ. وَقَيَّدَ الْقُرْبَ بِقَوْلِهِ: {إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ}
وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ قُرْبُ ذَاتِ الرَّبِّ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أَوْ أَنَّ ذَاتَه أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَهْلِهِ؛ فَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لَا يَخُصُّونَ بِذَلِكَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ وَلَا يُمْكِنُ مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ قَرِيبٌ مِنْ الْمَيِّتِ دُونَ أَهْلِهِ وَلَا إنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي جَمِيعِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ؛ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ جَمِيعِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ أَوْ هُوَ فِي أَهْلِ الْمَيِّتِ كَمَا هُوَ فِي الْمَيِّتِ؛ فَكَيْفَ يَقُولُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ إذَا كَانَ مَعَهُ وَمَعَهُمْ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهَلْ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَسِيَاقُ الْآيَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَلَائِكَةُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فَقَيَّدَ الْقُرْبَ بِهَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ زَمَانُ تَلَقِّي الْمُتَلَقِّيَيْنِ قَعِيدٌ عَنْ الْيَمِينِ وَقَعِيدٌ عَنْ الشِّمَالِ وَهُمَا الْمَلَكَانِ الْحَافِظَانِ اللَّذَانِ يَكْتُبَانِ كَمَا قَالَ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ قُرْبَ ذَاتِ الرَّبِّ لَمْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْقَعِيدَيْنِ وَالرَّقِيبِ وَالْعَتِيدِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَلَوْلَا إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} فَلَوْ أَرَادَ قُرْبَ ذَاتِهِ لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْحَالِ وَلَا قَالَ: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُقَالُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يُبْصِرَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَكِنْ نَحْنُ لَا نُبْصِرُهُ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَرَاهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ؛ لَا الْمَلَائِكَةُ وَلَا الْبَشَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} فَأَخْبَرَ عَمَّنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمُحْتَضَرِ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَذَاتُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذَا قِيلَ: هِيَ فِي مَكَانٍ أَوْ قِيلَ: قَرِيبَةٌ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ لَا يَخْتَصُّ بِهَذَا الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَحْوَالِ؛ وَلَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ قُرْبَ الرَّبِّ الْخَاصِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} فَإِنَّ ذَاكَ إنَّمَا هُوَ قُرْبُهُ إلَى مَنْ دَعَاهُ أَوْ عَبَدَهُ وَهَذَا الْمُحْتَضَرُ قَدْ يَكُونُ كَافِرًا أَوْ فَاجِرًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ مُقَرَّبًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمُكَذِّبِ لَا يَخُصُّهُ الرَّبُّ بِقُرْبِهِ مِنْهُ دُونَ مَنْ حَوْلَهُ وَقَدْ يَكُونُ حَوْلَهُ قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ. وَإِنَّمَا هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وَقَالَ: {وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَقَالَ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وَهَذَا كَقَوْلِهِ سبحانه: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} وَقَالَ: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}. فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ إذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِجُنُودِهِ وَأَعْوَانِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ صِيغَةَ نَحْنُ يَقُولُهَا الْمَتْبُوعُ الْمُطَاعُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ جُنُودٌ يَتَّبِعُونَ أَمْرَهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ جُنْدٌ يُطِيعُونَهُ كَطَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهُمْ وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَرَبُّهُمْ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَالِمُ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَمَلَائِكَتُهُ تَعْلَمُ؛ فَكَانَ لَفْظُ نَحْنُ هُنَا هُوَ الْمُنَاسِبُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَمَلَائِكَتُهُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ. وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ حَسَنَةً». فَالْمَلَكُ يَعْلَمُ مَا يَهُمُّ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِمْ بِالْغَيْبِ الَّذِي اُخْتُصَّ اللَّهُ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة أَنَّهُمْ يَشُمُّونَ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَيَشُمُّونَ رَائِحَةً خَبِيثَةً فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَهُمْ وَإِنْ شَمُّوا رَائِحَةً طَيِّبَةً وَرَائِحَةً خَبِيثَةً فَعِلْمُهُمْ لَا يَفْتَقِرُ إلَى ذَلِكَ بَلْ مَا فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ يَعْلَمُونَهُ بَلْ وَيُبْصِرُونَهُ وَيَسْمَعُونَ وَسْوَسَةَ نَفْسِهِ؛ بَلْ الشَّيْطَانُ يَلْتَقِمُ قَلْبَهُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا غَفَلَ قَلْبُهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَسْوَسَ؛ وَيَعْلَمُ هَلْ ذَكَرَ اللَّهَ أَمْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ وَيَعْلَمُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ مِنْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فَيُزَيِّنُهَا لَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ذِكْرِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ». وَقُرْبُ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِ ابْنِ آدَمَ مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَارُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرَّبِّ فِي قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ كَافِرٍ أَوْ مُؤْمِنٍ فَهَذَا بَاطِلٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا نَطَقَ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ مَعَ الْعَقْلِ يُنَاقِضُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قُرْبَهُ مِنْ دَاعِيهِ وَعَابِدِيهِ قَالَ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} فَهُنَا هُوَ نَفْسُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقَرِيبُ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الداع لَا الْمَلَائِكَةُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ». وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَرِيبٌ مِنْ قَلْبِ الدَّاعِي فَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ. وَقُرْبُهُ مِنْ قَلْبِ الدَّاعِي لَهُ مَعْنًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعْنًى آخَرُ فِيهِ نِزَاعٌ. فَالْمَعْنَى الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بِتَقْرِيبِهِ قَلْبَ الدَّاعِي إلَيْهِ كَمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ قَلْبَ السَّاجِدِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» فَالسَّاجِدُ يَقْرُبُ الرَّبُّ إلَيْهِ فَيَدْنُو قَلْبُهُ مِنْ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ بَدَنُهُ عَلَى الْأَرْضِ. وَمَتَى قَرُبَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مِنْ الْآخَرِ صَارَ الْآخَرُ إلَيْهِ قَرِيبًا بِالضَّرُورَةِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْآخَرِ تَحَرُّكٌ بِذَاتِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ قَرُبَتْ مَكَّةُ مِنْهُ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْرُبُ إلَيْهِ مَنْ يَقْرَبُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ فَقَالَ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وَقَالَ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}.
وَأَمَّا قُرْبُ الرَّبِّ قُرْبًا يَقُومُ بِهِ بِفِعْلِهِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ فَهَذَا تَنْفِيهِ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ يَمْنَعُ قِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يَمْنَعُونَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. فَنُزُولُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَنُزُولُهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ وَلِهَذَا حُدَّ النُّزُولِ بِأَنَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ تَقْرِيبِ الْحُجَّاجِ وَقُوَّامِ اللَّيْلِ إلَيْهِ لَمْ يَخُصَّ نُزُولَهُ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا لَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ فِي إجَابَةِ الدَّاعِي وَقُرْبِ الْعَابِدِينَ لَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ}. وَقَالَ: «مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا» وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ تَقْرِيبِهِ لِلْعَبْدِ إلَيْهِ جَزَاءً عَلَى تَقَرُّبِهِ بِاخْتِيَارِهِ. فَكُلَّمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ قَدْرَ شِبْرٍ زَادَهُ الرَّبُّ قُرْبًا إلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ كَالْمُتَقَرِّبِ بِذِرَاعِ. فَكَذَلِكَ قُرْبُ الرَّبِّ مِنْ قَلْبِ الْعَابِدِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَهُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى؛ وَهَذَا أَيْضًا لَا نِزَاعَ فِيهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ مُحِبًّا لِمَا أَحَبَّ الرَّبُّ مُبْغِضًا لِمَا أَبْغَضَ مُوَالِيًا لِمَنْ يُوَالِي؛ مُعَادِيًا لِمَنْ يُعَادِي؛ فَيَتَّحِدُ مُرَادُهُ مَعَ الْمُرَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُوَالَاةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمُوَالَاةِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ. فَإِنَّ الْوِلَايَةَ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ والْوِلَايَةُ تَتَضَمَّنُ الْمَحَبَّةَ وَالْمُوَافَقَةَ والْعَدَاوَةُ تَتَضَمَّنُ الْبُغْضَ وَالْمُخَالَفَةَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلابد لَهُ مِنْهُ». فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ يَقْرُبُ الْعَبْدُ بِالْفَرَائِضِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ اللَّهُ فَيَصِيرَ الْعَبْدُ مَحْبُوبًا لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالتَّوَّابِينَ والمتطهرين وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ. وَقَوْلُهُ: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يَقْتَضِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَجُنْدَهُ الْمُوَكَّلِينَ بِذَلِكَ يَعْلَمُونَ مَا يُوَسْوِسُ بِهِ الْعَبْدُ نَفْسَهُ كَمَا قَالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} فَهُوَ يَسْمَعُ وَمَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَسْمَعُونَ وَمَنْ شَاءَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَرُسُلُهُ يَكْتُبُونَ كَمَا قَالَ هاهنا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فَأَخْبَرَ بِالْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ نَحْنُ؛ لِأَنَّ جُنْدَهُ يَكْتُبُونَ بِأَمْرِهِ. وَفَصَلَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ وَأَمَّا كِتَابَةُ الْأَعْمَالِ فَتَكُونُ بِأَمْرِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ. فَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} لَمَّا كَانَتْ مَلَائِكَتُهُ مُتَقَرِّبِينَ إلَى الْعَبْدِ بِأَمْرِهِ كَمَا كَانُوا يَكْتُبُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ قَالَ ذَلِكَ وَقَرَّبَهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِتَوَسُّطِ الْمَلَائِكَةِ كَتَكْلِيمِهِ كُلَّ أَحَدٍ بِتَوَسُّطِ الرُّسُلِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}.
فَهَذَا تَكْلِيمُهُ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ؛ وَذَاكَ قُرْبُهُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَعِنْدَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِنَةِ فِي النَّفْسِ وَالظَّاهِرَةِ عَلَى اللِّسَانِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}.
وَقَدْ غَلِطَ طَائِفَةٌ ظَنُّوا أَنَّهُ نَفْسُهُ الَّذِي يَسْمَعُ مِنْهُ الْقُرْآنَ وَهُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ بِنَفْسِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ عِنْدَ قِرَاءَةِ كُلِّ قَارِئٍ كَمَا غَلِطُوا فِي الْقُرْبِ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّةِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّرُ قَوْلَ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مَعْدُومَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ بِخَلْقِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ بِإِبْقَائِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلَا مَوْجُودَ إلَّا بِإِيجَادِهِ؛ وَلَا بَاقٍ إلَّا بِإِبْقَائِهِ. فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ خَلْقَهَا وَتَكْوِينَهَا لَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى الْعَدَمِ لَا وُجُودَ لَهَا أَصْلًا؛ فَصَارَ هُوَ أَقْرَبَ إلَيْهَا مِنْ ذَوَاتِهَا؛ فَتَكْوِينُ الشَّيْءِ وَخَلْقُهُ وَإِيجَادُهُ هُوَ فِعْلُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبِهِ كَانَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا وَكَانَ ذَاتًا مُحَقَّقَةً فِي الْخَارِجِ. وَالْمَوْجُودُ دَائِمًا مُحْتَاجٌ إلَى خَالِقِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَكَانَ مَوْجُودًا بِنِسْبَتِهِ إلَى خَالِقِهِ وَمَعْدُومًا بِنِسْبَتِهِ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الْعَدَمَ؛ فَكَانَ الرَّبُّ أَقْرَبَ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إلَى أَنْفُسِهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَقَدْ يُفَسِّرُ بَعْضُهُمْ قَوْله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} بِهَذَا الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِالنَّظَرِ إلَى أَنْفُسِهَا عَدَمٌ مَحْضٌ؛ وَنَفْيٌ صِرْفٌ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ تَامَّةٌ بِالْوَجْهِ الَّذِي لَهَا إلَى الْخَالِقِ وَهُوَ تَعَلُّقُهَا بِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَبِالْوَجْهِ الَّذِي يَلِي أَنْفُسَهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَعْدُومَةً. وَقَدْ يُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ قَوْلَ لَبِيَدِ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ وَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا فَإِنَّهَا لَوْلَا خَلْقُ اللَّهِ لِلْأَشْيَاءِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَلَوْلَا إبْقَاؤُهُ لَهَا لَمْ تَكُنْ بَاقِيَةً. وَقَدْ تَكَلَّمَ النُّظَّارُ فِي سَبَبِ افْتِقَارِهَا إلَيْهِ هَلْ هُوَ الْحُدُوثُ- فَلَا تَحْتَاجُ إلَّا فِي حَالِ الْإِحْدَاثِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ- أَوْ هُوَ الْإِمْكَانُ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ بِلَا حُدُوثٍ بَلْ بِكَوْنِ الْمُمْكِنِ الْمَعْلُولِ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَيُمْكِنُ افْتِقَارُهَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ بِلَا حُدُوثٍ كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا وَطَائِفَةٌ؟. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمْكَانَ وَالْحُدُوثَ مُتَلَازِمَانِ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين حَتَّى قُدَمَاءُ الْفَلَاسِفَةِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يَقُولُونَ: إنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَإِنَّمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَطَائِفَةٌ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إخْوَانُهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ كَابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ وَالْمَخْلُوقَاتُ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْخَالِقِ فَالْفَقْرُ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهَا دَائِمًا لَا تَزَالُ مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ.